في الوقت الذي بدأ العالم بمغادرة الدولة القومية مفهوما وواقعا وصار التنظير السياسي يتحدث عن (مابعد دولة الامة) كما يشرح فيلسوف اوربا الاكبر
في الوقت الذي بدأ العالم بمغادرة الدولة القومية مفهوما وواقعا وصار التنظير السياسي يتحدث عن (مابعد دولة الامة) كما يشرح فيلسوف اوربا الاكبر حاليا (هابرماس) لازالت اممنا وشعوبنا المشرقية تعيش احلام الدولة القومية، وترتع في خدر فكر النهوض القومي، كأن القومية رابطة سياسية وان استحقاق كل قوم ان يكون لهم دولة وسيادة حتى تتحقق مصالحهم ويستريح مواطنهم في ظل دولته القومية وان فقد الحرية والكرامة والازدهار بفعل قهر السياسة او ظلم الجغرافيا او مكر التاريخ.
عندما عاشت اوربا فكرة الدولة القومية بعد حروب المذاهب وصعود عصبيات الاقوام والشعوب ،كان الشرق الاسلامي يعيش فكرة الدولة- الأمة برباط اسلامي تارة تحت مسمى دولة الخلافة السلطانية واخرى بأسم دولة الملك، وعندما تفككت هذه الدولة بفعل الصراع الدولي وتخلف العالم الاسلامي كانت القضية المشرقية الاولى على طاولة المفاوضات بين الكبار كيفية تقسيم هذا الارث الكبير وبناء الدولة البديلة ،فكانت فلسفة القومية هي السحر الجاذب والمشروع الملهم، وهكذا انقضى قرن كامل من عمر شعوبنا وهي تحلم بدولة الامة القومية بوصفها غاية النهوض والتحرر والتقدم والكرامة الفردية والجماعية.
هكذا سرقت الافكار عقول الشعوب وانستها الهدف الاساسي لقيام الدول وارتباط الافراد والشعوب برباط الدولة الحديثة حيث الانسان يحيا بكرامة وحرية ويستفيد من ثروات باطن الارض وسطحها ويتعامل بلغته وثقافته وتتعلم اجياله بلا هيمنة أو تهميش سياسي واقتصادي وثقافي وتتكافئ الفرص أمامه فلا يكون حاجز العنصر او اللغة مانعا من ترقي الانسان وتسنمه اعلى المناصب طالما كان المعيار هو القدرة والكفاءة والنزاهة وشرف المسؤولية.
الان حيث تتغير مفاهيم الناس نحو المواطنة الكونية والدول الكونفدرالية او الفدرالية على اساس التكامل الاقتصادي والسياسي وتنسى الشعوب حروبها الكارثية وتاريخها الدموي وأرثها الطغياني وتتجه نحو القوانين الحامية لحقوق البشر وارثهم الحضاري واللغوي والتاريخي نعيش نحن في ثقافة ماضوية وارث الادبيات السياسية المتهالكة وعصبيات الاقوام والمذاهب دونما اخذ من تجارب الشعوب ولا استعبار من تاريخها القريب بل ان الاحباط المدمر والتخلف المريع والازمة الشاملة لم تدفع لولادة فكر سياسي جديد يتجاوز الانسدادات والزوايا الحادة من تفكيرنا العنيف وفي الوقت الذي تضع دول كثيرة مسألة انفصال شعوبها على اساس قومي في قائمة الممنوعات الاخطر يجترح الفكر السلفي الارهابي العودة الى دولة الخلافة ويستجلب افرادا من ثمانين دولة ليموتوا تحت راية الخلافة الجديدة ،فيما يستعصي على مفكرينا وسياسيينا اجتراح حلول لازمة الحكم والادارة لشعوب مختلفة اللسان مشتركة الثقافة والاديان لان الفكر القومي صار عندهم المقدس الاول والا فماذا سيربح الكردي في العراق وتركيا وايران وسوريا اذا اقام دولة مأزومة وخنقته الصراعات والحروب وتبخر حلم الرفاه القومي والاعتزاز بالعلم والسيادة وماذا سيخسر في دولة تعددية اتحادية يتعلم فيها بلغته ويحكم نفسه بنفسه ويستفيد من مزايا اقتصاد متعدد وكبير ويتبوأ اعلى المناصب ويدير السياسة الخارجية والامنية والاقتصادية وهو شريك غير منقوص الشراكة، أليس ايديولوجية التعالي القومي هي مقتل شعوبنا واساس تخلفنا ومنبع كوارثنا؟ متى نتعلم من تجارب الاخرين بلا تضحيات من عمر الشعوب وازمنتها المقدسة؟!
*ابراهيم العبادي، كاتب وباحث، عضو ملتقى النبأ للحوار