كثر الحديث في هذه الايام حول تبعات تحرير مدينة موصل ومحافظة نينوى من اجرام داعش والسلفية الجهادية. وهنا ارى من الضروري ان نحلل الحالة العراق
كثر الحديث في هذه الايام حول تبعات تحرير مدينة موصل ومحافظة نينوى من اجرام داعش والسلفية الجهادية. وهنا ارى من الضروري ان نحلل الحالة العراقية الداخلية تحليل دقيق وشامل وننظر اليها من جوانبها المتعددة. سيكون هذا المقال هو الجزء الاول من ثلاثة مقالات حول عراق ما بعد تحرير الموصل. في الجزء الثاني سنحاول ان نحلل ونستقرأ دور التحالف الدولي والوضع الجيوسياسي للمنطقة وللعراق، وفي الجزء الثالث والاخير سنحاول ان نستقرأ مستقبل الحشد الشعبي وما هي المعطيات المهمة لامن البلد.
من الضروري ايضاً ان نسأل اسئلة جوهرية هي: ما هو المطلوب من عراق ما بعد الموصل؟ واي عراق نريد، موحد بحدوده الحالية ام مقسم على قواعد سياسية منطلقة من سياسة فرض امر واقع؟ عراق فدرالي او كونفدرالي؟ او عراق مركزي ام محافظات ذات صلاحيات واسعة جديدة؟.
القيادة العراقية:ادارة العراق ما بعد التحرير سيكون الاختبار الحقيقي لقوة وحكمة قيادات العراق المختلفة، وخصوصاً مع اعترافنا ان الدولة تضعف مع الزمن وتُستنزف من قبل الكثير من لاعبيها السياسيين وتنتقل الى واقع “اللادولة” وبالتالي تحرير الموصل يجب ان تكون نقطة بدء التعافي في بناء هيكليتها وسلطتها وهيبتها والا فستزداد ظاهرة امراء الحرب، وبالاخص على المستوى المحلي وفي المحافظات وتحت مسميات مختلفة.
وهنا يأتي السؤال التالي: هل كان احتلال داعش لثلث العراق كافيا كمؤشر خطر على مدى هشاشة ادارة البلاد وعمليتها السياسية المتأزمة وضعف التماسك الاجتماعي؟ ام اننا (لا سامح الله) نحتاج الى مؤشر آخر اسوأ منه. يجب ان لا ننسى مدى تداعيات الاستنزاف في حربنا ضد الارهاب على المجتمع والدولة العراقية، ونتيجة تعدد الازمات وتراكمها وكبرها فالحكومة المركزية مثقلة بالمشاكل الداخلية وعليه فسنراها تركز على أولويات التقليل من تداعيات التحرير وادارة مخاطرها تبعاً، وأحد الامثلة على ادارة المخاطر هي قرب الالتزامات الدستورية الانتخابية التي تضع الدولة العراقية امام اختبار آخر حول وضع خارطة طريق لإدارة الانتخابات (محافظات٢٠١٧ ومجلس النواب ٢٠١٨) في المناطق الغربية المتحررة ومناطق تواجد النازحين.
هناك الكثير من العيون تنظر وتطالب بدور جوهري مترقب من المرجعية المباركة في النجف في رعاية العراق الجديد، ذلك العراق الخالي من داعش والشامل لكل الاطياف والإثنيات والأديان تحت مظلة المواطنة والدولة المدنية. علما ان هذه المظلة يجب ان تعكس ايضاً مدى استعداد السياسيين العراقيين من شتى انتماءاتهم ان تكون سياساتهم عابرة للاثنيات والمحاصصة، فتحرير الموصل يجب ان يكون البداية لعنوان اتحاد الرؤى واتحاد القيادة لعراق جديد علماً ان ضعف احداهما او كلاهما سيزيد من المحنة.
الواقع السياسي العراقي:التحرك السياسي والدبلوماسي العراقي (واقصد الدولة وليس وزارة الخارجية فقط) لا يوازي التحرك العسكري لها في تحرير الموصل وذلك لاختلاف الرؤى السياسية العراقية الداخلية ولضعف آليات التأثير السياسي العراقي على دول الجوار ودول التحالف الدولي. هناك حاجة آنية لمراجعة آليات التقييم والتأثير على من هو خارج الحدود مع عدم تجاهل وجود تداخل بين اغلب الاطراف العراقية والإقليمية والدولية في موضوع تحرير الموصل.
وهذه الحالة تُعبر عن عمق التعقيدات وسعة الاطراف ذات العلاقة التي ترى معركة التحرير كخط فاصل بين الماضي المرتبط بداعش والمستقبل المتعلق بزيادة قدرة تأثيرها على مجريات الاحداث العراقية والإقليمية مع المحافظة على مصالحها المشتركة والشخصية. وهنا يأتي سؤال عن مدى اتفاق الحلفاء السياسيين العراقيين على انهاء ملف داعش والعمل على خلق تحالفات جديدة تعكس واقعا عراقيا جديدا، مدركين ضرورة ان تكون تحالفاتهم قوية واستراتيجية وليس تكتيكية وآنية، وخصوصا مع قرب الانتخابات، وهنا نستطيع ان نقول ان ضعف وجود رؤية ستراتيجية موحدة يعني تشرذم الطاقات والقوى وتبعثر الاهداف.
معركة تحرير الموصل:موصل أكبر مدينة سنية ذات اغلبية عربية في العراق، وهي الابعد من بغداد، والاقرب من اربيل، غرب المدينة عربي وشرقها كردي واقليات اخرى، مدنية في المركز وعشائرية على الاطراف، وهناك اختلاف ثقافي وحضاري بين اهل مدينة الموصل وضواحيها وهذا سيزيد من تعقيدات ادارتها بعد التحرير. وهي مصدر مالي مهم لتنظيم داعش وكذلك مصدر لتجنيد كوادرها الارهابية، وتحريرها يعني نهاية الكيان الرسمي للدولة الاسلامية (داعش) مع الادراك ان داعش لم تقم بأي عملية هجوم عسكري في العراق منذ احتلال الرمادي في العام الماضي.
ولعل حسم ملف من سيشارك في تحرير الموصل وتقسيم الواجبات او تقاطعاتها على الارض مهم جدا وسيخضع لصراع عراقي واقليمي. علماً بان خطورة فقدان التركيز على محاربة داعش بعد تحرير الموصل يعني استمرار النزيف المادي والسياسي للدولة العراقية. ومن جانب آخر فان تحرير الموصل سيكون عنصر دعم معنوي لتقوية الجيش العراقي وعودة عافيته، وهنا تأتي اهمية تسويق الحكومة العراقية لانتصاراتها والاستفادة القصوى من آخر معاركها الجبهوية مع داعش.
منهجية ارجاع وتحرير المناطق العراقية من داعش ستستمر وذلك لأنها نتاج عمل جماعي برعاية رئيس الوزراء مع وجود قرار عراقي واقليمي ودولي في ذلك، وهذه المنهجية تعني ان الانظار ستتجه حيال كيفية حسن ادارة الحالة الانسانية في المناطق المحررة التي ستكون من اهم عوامل الاستقرار على المدى القريب، خصوصاً مع استعدادات الحكومة المركزية لتسهيل امور النازحين وباقي الامور الانسانية واثرها على مجريات الاحداث بعد تحرير الموصل.
من الضروري جداً ان يؤمن الماء والايواء والاكل الخ من ٣ الى ١٢ شهر للنازحين، بالاضافة الى اهمية سرعة تدريب الشرطة المحلية والامن الداخلي للمدينة والتي ستساعد في تقليل التوتر داخل المناطق المحررة. دور الامم المتحدة في دعم العراق بخصوص اللاجئين والنازحين سيكون محوريا، مدركاً ان كسب ثقة المحليين من اهالي الموصل سيكون امرا صعبا ولكن ليس بمستحيل، وحتى لو فقدوا هم الثقة بداعش. ارى من الضروري ان نفكر بعض الشيء خارج الاطر التقليدية واقترح هنا تعيين حاكم عسكري على الموصل كخيار من الخيارات التي يجب التفكير فيها بجدية، قد تكون هناك اشكالات قانونية او سياسية ولكنها قد تكون اقل ضرراً من ادارة المدينة عن طريق مجالس المحافظات.
داعش والارهاب ما بعد الموصل:ما هي جرعات المضادات الحيوية في الجسم العراقي لكي لا يعود داعش والارهاب؟ سؤال عاجل وجوهري، علينا كلنا ان نبحث عن اجابات له. بعد الانتهاء من تحرير الموصل ستتجه عيون دول التحالف الدولي باتجاه سوريا وتعقيداتها وهنا من الضروري على القيادة العراقية ان تركز على عدم إرجاع وجود داعش على الارض ولو تحت اي مسمى، علماً ان تحرير الموصل سيكون ضربة قوية ضد شرعية وهيكلية داعش ولكن لن تكون القاصمة وذلك لقربها الجغرافي من سوريا ولأن الموصل كانت في الحقيقة هي منطقة خارجة عن سيطرة الدولة العراقية حتى قبل حزيران 2014.
طول بقاء داعش في الموصل خلق جيلا جديدا من الشباب يؤمن بأهداف داعش، وهنا من الضروري ان نعترف ان البديل العسكري لتنظيم داعش سوف لن يكون اقل قسوة او اجرام من داعش وان الاعمال الارهابية من تفجيرات وغيرها سوف تستمر وستنتقل اكثر لداخل المدن العراقية وكذلك ستبقى بعض المناطق خارج سلطة الدولة. هناك عوامل مهمة ستؤثر على مجريات الامور السياسية العراقية لما بعد تحرير الموصل; منها نسبة دمار مدينة الموصل، وعدد الضحايا وسرعة تحريرها، ونسبة خروج النازحين نتيجة المعركة والتي ستكون لها تداعيات سلبية ايضاً على استقرار اقليم كردستان، وقدرة الحكومة المركزية في بسط سلطتها على المدينة، بالإضافة الى سرعة تعافي دور جهاز المخابرات العراقية وباقي الاجهزة الامنية لتحويل المعركة الوجودية مع الارهاب الى معركة استباقية.
القول والعمل على تقسيم العراق من بعض الاطراف العراقية وبعض دول الجوار من دون وضوح لتداعياتها على المنطقة ستخلق اجواء توتر مستمرة للمنطقة وستزيد من الصراعات الطائفية والاقليمية لأمد بعيد. الحوار الحقيقي والواضح بين الاطراف العراقية ضروري لتقليل التوتر واعادة بناء الدولة ونسيجها الاجتماعي.
وهنا نسجل نقطة على القيادات السياسية العراقية التي كانت من المفترض ان تستعد لعراق ما بعد داعش ابتداءً من اللحظة التي تم الاقرار فيها بعدم التعايش مع داعش وذلك لان بعض الفرص القادمة سوف تضيع نتيجة ضعف الاستعداد لهذا اليوم المبارك. هناك ملفات متعلقة بجرائم داعش، مثل سبي الايزيديات وتدمير الآثار والمقابر الجماعية وغيرها، من سيكون المسؤول عن معالجة ومتابعة هذه الملفات الانسانية الاجتماعية؟ اذ تنظر الاقليات للحكومة والقوى السياسية الكبيرة الى مدى استعدادها لمد يد العون وتهيئة اجواء التعايش السامي لها بعد تحرير الموصل، بالاضافة الى ادراكها ان تعقيدات التعامل والتعايش مع الاطراف التي تعاملت وتعاطفت مع داعش غير سهلة راجيةً ان لا يكون منطق (عفا الله عما سلف) هو السائد او من جانب اخر ان يكون الثأر هو العنوان الاجتماعي المقبول، وهنا يأتي دور الحكومة ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية في خلق معادلة عدالة اجتماعية وتعايش جديدة؟.
العراق لديه مقومات القوة للبناء وترميم النسيج الاجتماعي والسياسي، ذلك لأنه تحمل الازمات المتراكمة مع انخفاض اسعار النفط ومع وجود حرب لأكثر من عقد من الزمن ضد الارهاب ومع الحراك العنيف داخل مجلس النواب والمتظاهرين ودخول المنطقة الخضراء ولكن كل ذلك حصل ضمن آليات دستورية وبطريقة سلمية. الانتهاء من ملف داعش فرصة ذهبية للأطراف العراقية المختلفة لإعادة بناء الدولة والمجتمع العراقي على اسس سياسية ودستورية جديدة، اذ لا نستطيع ان نعتمد على الثقافة السياسية الحالية وآلياتها ومنهجيتها في اعادة العافية للدولة والمجتمع العراقي.
* الدكتور لقمان عبد الرحيم الفيلي باحث مشارك في ملتقى النبأ للحوار وسفير العراق السابق لدى الولايات المتحدة الأمريكية