بداية فمن الممكن وضع عدد من التساؤلات الافتراضية لكي نتمكن، من خلال الاجابة عليها، رسم الصورة المستقبلية للاقتصاد العراقي ما بعد صدمة انخف
بداية فمن الممكن وضع عدد من التساؤلات الافتراضية لكي نتمكن، من خلال الاجابة عليها، رسم الصورة المستقبلية للاقتصاد العراقي ما بعد صدمة انخفاض اسعار النفط، فإذا ما استمرت اسعار النفط على اسعارها المتدنية، فهل يستطيع الاقتصاد العراقي الصمود؟ وماهي الخيارات التي من الممكن طرحها من النخبة الاقتصادية لتجاوز تلك الازمة بحلول قصيرة الامد؟ وماهي الاجراءات التي من الممكن ان تتخذها السياستين المالية والنقدية لتنويع مصادر ايرادات الاقتصاد العراقي دون المساس بالمواطن؟
كلنا يعلم ان الاقتصاد العراقي يمر منذ اكثر من عام بانكماش سماته تراجع الاعمال وشحة السيولة..الخ.
وحالة الانكماش ينبغي معالجتها بسياسات توسعية (مالية ونقدية) اي زيادة الانفاق الحكومي وتقليل الضرائب في الجانب المالي، وخفض اسعار الفائدة على القروض وخفض نسبة الاحتياطي القانوني من الجانب النقدي ومجموعة من الاجراءات النقدية الاخرى التوسعية.
ولكن ماحصل هو العكس، اذ ان السلطة المالية قامت بتخفيض الانفاق الحكومي ورفع الضرائب، وعدم اتخاذ اجراء يعتد به في الجانب النقدي... لذلك فأن هذه السياسات من الممكن ان تزيد الانكماش انكماشا.
ولكن السؤال هو من اين تأتي الحكومة بتخصيصات اضافية لتمويل الزيادة في انفاقها؟
كلنا يعلم ان العرض الكلي اكبر من الطلب الكلي في الاقتصاد العراقي فمن المؤكد ان السلطات المالية والنقدية يجب ان تركز سياساتها لتنشيط الطلب الكلي، المعمول به حالياً هو زيادة الضرائب، ولكن كل زيادة في الضرائب هي اليوم مضرة بالاقتصاد لأنها تؤدي الى التأثير سلباً على الطلب الكلي الذي نحن بحاجة الى تنشيطه اليوم، بعض الاقتصاديين طرحوا زيادة ضريبة القيمة المضافة فقط، والجواب هو ان كل انواع الضرائب هدفها واحد وبالتالي تقع على عاتق المستهلك النهائي وهذه هي المشكلة، وضريبة القيمة المضافة تفرض على كلف الانتاج وتعود ايضا في النهاية على كاهل المستهلك.
أما التفكير بحلول طويلة الامد، فهو مهم بكل تأكيد ويجب أن نكون قد بدأنا به منذ عام 2003، ولكننا اليوم في ازمة والازمة هي حدث مفاجئ يؤدي الى خلل في النظام ومواجهتها تتطلب اتخاذ اجراءات سريعة في ظل محدودية الزمن، لذلك ينبغي أن نركز على الاجراءات قصيرة الامد.
ولكن تنشيط الطلب الفعال، وهو الامر الملح في حالة الانكماش، يحتاج الى زيادة الانفاق الحكومي... ونحن الان في حالة انخفاض الايرادات النفطية...فما هو الحل؟
تم طرح مجموعة كبيرة من الحلول من قبل الاقتصاديين من أهمها الاتي:
1. تعدد سعر الصرف:
أي لا يكون هناك سعر صرف واحد كما هو معمول به الان، فكلنا يعلم ان ايرادات النفط هي بالدولار تستلمها سومو وتسلمها الى وزارة المالية وتقوم وزارة المالية باستبدالها بالدينار العراقي مع البنك المركزي حسب السعر المحدد من قبله اليوم يتراوح بين (118-120) دينار للدولار الواحد.. وبهذا فأنه على سبيل المثال لو كانت مبيعات النفط تساوي مليون دولار يوميا فان وزارة المالية ستستبدلها بمليار ومائتي الف دينار عراقي.. فلو تم تخفيض سعر صرف الدينار العراقي امام الدولار الى 150 بدلا من 120 فهذا يعني ان وزارة المالية ستستلم مليار ونصف عن كل مليون دولار وهذا بحد ذاته زيادة في ايرادات الوزارة التي ستكون لها مرونة اكبر في زيادة الانفاق الحكومي، ولكن سيكون هناك اعتراض على هذا المقترح مفاده ان خفض سعر الصرف ممكن ان يؤدي الى تضخم، والجواب هو أن العراق اليوم لا ينتج شيء يذكر فكل السلع تأتي من الخارج عن طريق الواردات، فلذلك يمكن ان يكون هناك تضخم مستورد، ولكن تعدد اسعار الصرف سيحل المشكلة، اذ يتم الابقاء على سعر الصرف السابق (120) لغرض التجارة الخارجية فقط.
2. سحب الكتلة النقدية المكتنزة لدى الجمهور: في 18 كانون الثاني 2016 أعلن محافظ البنك المركزي ان حجم الكتلة النقدية 40 ترليون دينار عراقي، ومن مصادر من البنك المركزي العراقي فأن (77%) من هذه الكتلة النقدية مكتنزاً لدى المواطنين، اي بحدود 30 ترليون دينار مجمدة وهي الطامة الكبرى، فهل من الممكن القول ان السياسة النقدية فشلت في هذا الجانب، اي فشلت في استقطاب المكتنزات في الجهاز المصرفي؟ اذن اليوم مدى نجاعة السياسة النقدية من الممكن قياسه بقدرتها على اتخاذ سياسات لسحب هذا الكم الهائل من الاموال (المجمدة) ولكن ماهي هذه السياسات؟
3. شروع المصارف التجارية في ظل امتلاكها لكميات كبيرة من الاحتياطيات والسيولة الفائضة بالتوسع في الإقراض بأسعار فائدة مقبولة تشجع المقترضين فضلا عن تخفيض الضمانات بما يتناسب وحجم القروض في ضوء التاريخ الائتماني للمقترضين.
4. إشاعة الوعي والثقافة المصرفية واعادة الثقة بالنظام المالي في العراق وهذه العملية تحتاج الى تضافر الجهود الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني وتأتي الحكومة بالدرجة الأساس من خلال توزيع الرواتب بحسابات جارية في المصارف التجارية وعلى الجهاز المصرفي أن يهيئ نفسه للقيام بهذه المهمة.
5. الحفاظ على استقلالية البنك المركزي ومنع التدخل الحكومي في أعماله وأنشطته وسياسته النقدية، وتعديل قانون البنك والقوانين ذات العلاقة التي تمت صياغتها بصورة عاجلة عام 2003 و2004 بما يضمن تطويرها وتلافي الهفوات فيها.
6. السيطرة على عمليات التحويل الخارجي في الوقت الحاضر لان البلد في حالة حرب وطوارئ ولا بد من وضع قيود صارمة على التحويل الخارجي فضلا عن القيود على السلع الداخلة ولاسيما غير الضرورية والترفيهية منها.
7. معالجة التضارب بين السياستين النقدية والمالية وتوحيد الأهداف ولاسيما استهداف الخروج من حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد العراقي حاليا بسبب السياسات النقدية الانكماشية والمالية التقشفية (بسبب انخفاض أسعار النفط حاليا) والتي نجمت عن التوسع المالي في السنوات الماضية.
8. إعادة النظر بنافذة مزاد العملة بتطويرها وليس إلغائها او وضع القيود عليها، وتخليصها مما لحق بها من إشارات للفساد المالي والإداري وإتاحة الفرصة لجميع المصارف للدخول بها دون تمييز وتقليل الفارق في سعر الصرف بين سعر البيع في البنك وسعر البيع في السوق بتقليل الأرباح التي تستحوذ عليها هذه البنوك والتي لا تتحمل أية مخاطر لتأخذها مقابل هذه الإرباح العالية، فضلا عن عدم إعطاء الأولوية لبنوك على حساب أخرى والتعامل معها جميعا بنفس المستوى سواء أكانت حكومية او غير حكومية او غير ذلك من المعايير.
9. اقتراح إصدار الحكومة لأوراق مالية بأسعار فائدة مجزية يتم توزيعها ضمن استحقاقات كل المتعاملين مع الحكومة سواءً كانوا موظفين او غيرهم بنسبة معينة تتزايد مع تزايد الرواتب والاستحقاقات وتصبح نسبها عالية (وليست كميتها فقط) كلما زادت الرواتب والمكافآت وغيرها من المستحقات المالية، ويمكن أن تؤشر لهذا المقترح ثلاث فوائد مباشرة وهي : أولا إشاعة التعامل بالأوراق المالية المضمونة والمعدومة المخاطر (كونها حكومية)، وثانيا دعمها للموازنة الحكومية من خلال تقليل النفقات النقدية المدفوعة، وثالثا زيادتها للإيرادات كونها تدخل ضمن مورد الاقتراض الحكومي.
10. ان أحد الحلول السحرية للازمة الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد العراقي في الوقت الحالي هو دعم وتشجيع القطاع الخاص، وهذا الموضوع من الصعوبة تطبيقه في الوقت الحاضر بسبب الابوية التي يشعر بها القطاع العام تجاه القطاع الخاص وكأن الفلسفة الاقتصادية للدولة بعد 2003 لم تتغير، فلسفة اقتصادية ضائعة تائهة لا تمتلك رؤية حقيقية ولا اهداف، لذلك من الطبيعي ان نجد هذا التخبط في السياسات الاقتصادية سوى بعض بقع الضوء في السياسة النقدية لأن من يديرها اناس اكفاء.
11. بيع بعض ممتلكات الدولة الى القطاع الخاص، فعلى الرغم من أن هذا المقترح سيوفر سيولة لابأس بها للموازنة العامة من جانب، وسيحقق هدف سحب السيولة المجمدة لدى الجمهور من جانب آخر، ولكننا نعتقد أن توقيته غير صائب، إذ أن مافيات الفساد ستغير مساره من خدمة عامة الى خدمة شخصية ومن ثم يفقد أهميته.
نعتقد ان أول المشكلات التي تواجه الاقتصاديين اليوم هي كيفية ايصال اصواتهم الى مراكز القرار، واذا تم ايصالها فهل سيستمعون اليها، واذا سمعوها فهل سيتم تطبيقها؟ لدينا مئات الاطاريح والرسائل والكتب والبحوث التي صدرت من الجامعات العراقية تتحدث حول مشكلات الاقتصاد العراقي والحلول العلمية المقترحة لها؟ ولكن ما من مجيب.
اذن مشكلة البلد ليس بتشخيص المشكلات الاقتصادية، فهي مشخصه، وليس في ايجاد حلول لها، فالحلول موجودة، ولكن المشكلة في ايصال صوتنا للسياسي وقيامه بالتطبيق.
بالطبع بدأنا نسمع بعد عام 2003 مصطلح جديد وهو (الفكر الاكاديمي البعيد عن الواقع) فكلما بحثنا موضوعا بشكل علمي نسمع مثل هذه العبارات من الساسة، بحجة اننا منفصلين عن الواقع وآراءنا نظرية افتراضية لا تمت الى الواقع العملي بصلة، وتناسوا قول الامام الصادق (ع) ان العلم امام والعمل تابعه.
لذا نجد ان من اولى مهام النخبة الاقتصادية اليوم هي ايجاد الطرق السليمة لإيصال اصواتهم الى اصحاب القرار، ومن ثم اقناعهم بالأخذ بها، والا فانها ستصبح في مهب الريح كما بحوثنا ورسائلنا واطاريحنا.
* الأستاذ الدكتور جواد كاظم البكري، عضو ملتقى النبأ للحوار، واستاذ في جامعة بابل- كلية الادارة والاقتصاد، معاون مدير مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية