تبقى جذور الحقيقة ظمأ تحتاج إلى ينابيع تنهل من روافد صادقة وموضوعية، ومسؤولية المثقف التزام أخلاقي في كل ما يكتبوه، وكلماته ورؤاه (صفارة إن
علي صحن عبد العزيز
تبقى جذور الحقيقة ظمأ تحتاج إلى ينابيع تنهل من روافد صادقة وموضوعية، ومسؤولية المثقف التزام أخلاقي في كل ما يكتبوه، وكلماته ورؤاه (صفارة إنذار)، لإيقاظ غفوة الناس من التهديدات التي تكتنف واحات الثقافة والحرية والأمان. وفي ظل تداعيات متأرجحة بعد عام 2003 متمثلة في بوصلة إعلامية، سياسية، ربما تكون سلعة لمن يدفع ثمناً أكثر.
وتتباين مستويات الفهم لدى المثقفين بشأن غيابه عن المشهد السياسي، إذ أن هناك من يفهمها بمعنى التقيد والالتزام نصياً من قبل المؤسسة التي يعمل بها، وهنالك أيضا من يترجمها بقيم الدفاع عن الثوابت الوطنية، وتبقى الآراء شتى، بضياع المعيار المهني و أهمية دور المثقف (إن الخبر مقدس والتعليق حر) وهذه قاعدة يجب أن لا تسلب من المثقف حقه في تشخيصه للواقع السياسي واستخلاص المعطيات المطروحة، بل إن المسؤولية الأخلاقية والمهنية تجعله ومن غير دوافع يسعى للحضور الميداني والمؤثر، وبعيداً أيضا عن كل مجسات السياسيين المرتبطة بمصالحهم الضيقة.
عقدت مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام/ مكتب بغداد ملتقاها الحواري تحت عنوان (غياب دور المثقف العراقي عن المشهد السياسي) على قاعة مصطفى جواد في المركز الثقافي البغدادي /شارع المتنبي. شهدت الحلقة حضور مجموعة رائدة من الكتاب والفنانين وشخصيات اكاديمية وسياسية، تمثلت بالروائي حسن البحار، والروائي والاعلامي خالد الوادي،
والروائي صادق الجمل، والموسوعي والخبير القانوني طارق حرب، والسياسي والنائب السابق فوزي أكرم ترزي، والشاعر غالي الخزعلي، والمخرج علي كاظم، ونخبة من كادر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تمثلت بالأستاذ الكاتب علي الطالقاني مدير المؤسسة، والاستاذ حيدر الجراح مدير مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث، وموفد وكالة النبأ للأخبار الاعلامي خالد سلام ومدير العلاقات الاستاذ عدي الحاج، والاعلامي الاستاذ فلاح الحسيني، فكانت الأفكار والرؤى تتلاقح وكل دلى بدلوه.
ادارة الجلسةالفنان التشكيلي فهد الصكر الذي أدار جلسة الحوار بدأها مرحباً باسم مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام " للمشاركة الفعالة والحضور الواسع ضمن المشهد الثقافي الذي يعمل الجميع جاهدين لترميمه. عبر حلقات حوارية مماثلة خلال القادم من الايام لبحث واكتشاف ما هو مخبوء. وتابع :اليوم نبدأ في واحدة من الموضوعات الشائكة وهي "غياب دور المثقف العراقي عن المشهد السياسي ". واستدرك يقول: "جوليان بندا" في كتابه (خيانة المثقفين) إن المثقفين الحقيقيين يشكلون طبقة العلماء أو المتعلمين البالغي الندرة حقاً، لأن ما ينادون به هو المعايير الخالدة للحق والعدل، وهي التي لا تنتمي الى هذه الدنيا"،
اما "أنطونيو غرامشي" فهو يذكر في مذكراته(السجن)" أن جميع الناس مفكرون، ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس" وهو من يقول : "كل من يعمل في أي مجال يتصل بإنتاج المعرفة ونشرها هو مثقف". واضاف : لو بحثنا عن كلمة "المثقف" في العنوان العربي نجدها غائمة المعنى ويصعب التكهن بها ويستحيل ان نضعها في اطار او شعار محدد، وغالباً ما يراد, وربما عمداً أن يفرض البعض معادلة أو إشكالية (السياسي والمثقف) على ورقة عمل العراق التي تزدحم فيها الإشكاليات الشرعية وذات الأولوية, لتكون متنفساً غير شرعي لأصحابها.
موضحاً أن" من يثير أو ينكأ أواصر تلك المعادلة هو بعض من المثقفين، وكأن السياسيين قد سلبوهم عروشهم.
ربما تكتسب إشكالية السياسي والمثقف مبرراً لوجودها في مجتمعات تكون فيها رؤى الطرفين متفقة حيال مستقبل شعوبهم, لكننا لا نعتقد أن يكون لها مبرر لدينا يستحق كل هذا الهدر للوقت والجهد في مناقشتها، وذلك لعدم وجود العلاقة بين أدوات وعناصر وغايات السياسي والمثقف. فالسياسي ورغم أن اغلب أدواته وأدبياته تكون ملونة بالكذب والخداع والمصالح الخاصة, إلا أننا غالباً ما نراه يحسم الموقف, سواء كان موقفه الشخصي أو موقف شعبه أو طائفته, أو حزبه، وذلك عن طريق إصراره على التغيير والذي غالباً ما يدركه حين يعبد طريقه بدماء وأرواح, بينما المثقف ورغم أن أدواته وعناصر ثورته تكون مُثلاً عليا ونظريات أخلاقية, وأننا لم نشهد يوماً أو نقرأ أنه استطاع أن يحسم موقف شعب, ناهيك عن عجزه لحسم موقفه الشخصي، وتلك حقيقة يؤكدها الواقع, إذ لم نشهد, وعلى مر التاريخ أن قاد المثقفون ثورات اجتماعية أو سياسية بالقدر الذي يفعله السياسيون, وغالباً ما نرى مجرى الأحداث يتغير بثورات يكون رائدها السيف وليس القلم".
واشار الصكر إلى أن "مفهوم المثقف إنما يتجسد في الفرد الذي يعي قضية شعبه سواء كانت تلك القضية بحجم كسرة الخبز أو كانت مجرد حلم بالحرية. وبهذا المعنى يكون السياسي هو المثقف، ونحن في العراق عشنا زمن البعث البغيض المحنة سوية وشهدنا السجون وبمن كانت تكتظ، وبأي رقاب كانت تتزين حبال المشانق، وربما لا يختلف معي حتى المثقفون على أنها كانت, تكتظ بالسياسيين, وكانت حبائل مشانق الظلم لا تشتهي من خوفها إلا رؤوس تحمل أفكار التغيير". واستذكر الصكر قائلاً : يوم قرر صدام وفي لحظة موت أن يغلق أبواب الحياة بوجه الجميع حيث راح أغلب العراقيين للبحث عن فرصة حياة خارج الحدود, وأيضا نستطيع أن نتفق على أن حدود العراق كانت تغص بأصحاب الأفكار الثورية وبأصحاب الأقلام تحت الطلب".
نعم هرب الجميع، لنقل ذلك، ولكن كان من بينهم من قرر أنه لابد أن يعود يوما، ويوم حانت ساعة العودة، رأينا من كانوا روادها وكيف عادوا، سواء (بكوستر) إنكليزي أو (بكيا) أمريكية أو(بستوته إقليمية)أو على ظهر فرس طروادي، بينما وجد أغلب المثقفين خلف حدود العراق مرتعاً ينسجم ومستوى حبهم للحياة فآندمجوا فيه غير مكترثين لشعب صار يسكن مقابر جماعية.
لسنا ضد أحد حتى يدعي خلاف واقعه أو يستبدل أدواته وغاياته بأدنى منها، فنحن ضد الطبيب حين يستبدل المشرط بالخنجر، وضد المهندس حين يستبدل قوانين الهندسة بمبدأ (عينك ميزانك)، وضد المثقف حين يغادر (عرينه) إلى طابور على باب سياسي، أو إلى منافسة غير متكافئة معه.
وأخيرا فنحن لا نرى مبرراً للتنافس بين السياسي والمثقف لا سيما حين صار يفندها المثقفون أنفسهم من خلال محاولاتهم الجديدة لصنع أصنام جدد لسياسيين جدد. فلينظر كل منا إلى ما بين يديه من سلاح ليختار حلبة نزال تتفق وحجم سلاحه.وبعد هذه المقدمة عرض الصكر تلك التساؤلات لمناقشات الحضور على طاولة
مؤسسة النبأوقال مدير مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام الكاتب الصحفي علي الطالقاني، تعقيباً على موضوع الملتقى لضرورة ابراز دور المثقف والخروج من دائرة الحيادية والتصدي للمشهد السياسي بالتزامن مع الحديث عن الانتخابات في العراق المزمع عقدها في شهر أيلول المقبل وانتقال السلطة في العراق، يأتي الحديث عن دور النخب المثقفة من اجل ان تسهم في التطوير والمشاركة في العملية السياسية في العراق. واضاف: لذلك عقدت المؤسسة ندوتها الشهرية بعنوان غياب دور المثقف عن المشهد السياسي العراقي بمشاركة نخب سياسية وثقافية وجماهيرية، من أجل تهيئة أجواء للحوار بين هذه الشرائح. واضاف الطالقاني: إن المؤسسة لديها إيمان عميق بدور المثقف وقدرته على التغيير الذي تنشده عملية الاصلاحات التي تقدم به رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وكذلك ما أكدت عليه المرجعية الدينية في العراق، مشيراً الى أن الملتقى الحواري يأتي ضمن حديث الساعة في وقت يشهد العراق تظاهرات منذ عام تطالب بالإصلاحات أيضاً، من هنا أكد المشاركون على أهمية وجود دور حقيقي للنخب المثقفة.
جدلية العقد الاجتماعيقال الروائي حسن البحار في مشاركته ضمن مناقشات الحوار، في بداية كلامنا سنتحدث وبكل صراحة عن المشهد الثقافي ودور المثقف فيه، هل كان صوته متحرراً من قصد وعقد الأحزاب، وهل أن الفكر مستقل ويمتلك إرادة حرة وهل كان ضميره حاضراً وليس غائباً عن الأحداث ليشخص مواطن أشباه الظلام. إن الدولة مطالبة بتفعيل العقد الاجتماعي كوثيقة صلح في تلبية رغبات المتعاقدين في السلم والتعايش المدني، وكذلك دعم الهيئات السياسية الأخرى التي تحمل برنامجاً تكاملياً يستقطب موازين القوى، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن المثقف يحمل جمرة معاناة متقدة، وآهات في قلبه على سياسة الدولة، ونعتقد أن هنالك جدلية قائمة بين ما يقدمه المثقف لأبناء وطنه ومجتمعه، وبين محاولة عزله وتهميش دوره، وهذه سياسة تعتمدها وتسعى إليها الأحزاب بكافة مسمياتها في المشهد السياسي العراقي، ونؤكد مرة أخرى ومن خلال التجارب الدولية ومنها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية أن سر قوتها بالعقد الاجتماعي، والإبتعاد عن التحزب وتسيير مؤسسات الدولة أو احتوائها وتقطيبها، هذا ما آليت إليه الأمور هنا.
ثقافة مغايرة للواقعمن جانبه أكد المخرج علي حسين خريج كلية الفنون الجميلة /قسم المسرح، بأن ثقافة المسرح أصبحت هزيلة ,وتعتمد في نصوصها على لغة تسخر من المشاهد وذائقته الفنية، وواقع الحال الذي رصدناه أنها تسعى متلهفة نحو المال بتداول قضايا بعيدة كل البعد عن تجليات الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي، وهنالك مسألة أخرى تتمثل بقلة المهرجانات التشكيلية. وطالب حسين الرئاسات الثلاث بالدعم المادي والمعنوي ووضع أناس أكفاء إختصاص بعيدين عن كل طائفية مقيتة.
جلباب الأدواروفي ذات الشأن يرى الشاعر غالي الخزعلي أن " ثقافة الرأي وسماع رأي الآخر لم تختلف عن خمسينية الزمن الماضي، حيث أنها تسعى إلى تجنيد المثقفين، والتي أخذت مدى واسعاً خلال كل الحروب التي خاضها مع دول الجوار، وهذه أيضاً سياسة قمعية حجمت وغيّبت دور المثقف، ووضعت حاجزاً وطوقاً أمنياً لا يمكن لأي مثقف عبوره إلا بجواز سفر القتل والتهجير، وجلباب الأدوار لا يختلف عن سابقه سوى صبغة اللون التي يرتدونها، ولذا فالثقافة والمثقفون هنا تحت تهديد طلقة التعبير عن الرأي، فإذا لم تكن معنا فانت علينا، وتلك ثقافة غير متخصصة يصعب التخاطب معها، فالخلل يكمن بغياب دور الحكومات المتلاحقة وبقانونها المتساهل مع اللصوص والقتلة والذي يضيع ضمنها صوت المثقف وإن كان مدوياً فهو ليس بأقوى من صوت الرصاص والفساد المتشعب بأغلال المجتمع".
المثقف والدينارالروائي والاعلامي خالد الوادي الذي انتقد في مداخلته النقاشية إنكفاء المثقف على ذاته، ولهث البعض منهم وليس بالعموم حسب ما ورد في حديث الوادي إذ أن البعض ممن يدعون الثقافة يمارسون اللهث وراء دينار السياسي في الترويج عن مناهضات خائبة لذك السياسي المترف، فيما تخلى البعض عن دوره الريادي في صنع القرار السياسي كما كان سابقاً إذ أحدث المثقف والمفكر والروائي والقاص وغير ذلك من شرائح ما يسمون بالطبقة المثقفة الأثر التغييري المهم في عدد من البلدان فيما سبق من أزمنة، مبيناً أن العراق نموذج أول في ذلك وهو ما تجاهله المثقف العراقي الذي غيّب وغاب عن المشهد السياسي واخفت صوته بنزعة الخوف والدينار واللامبالاة.
المثقف البرلمانيفيما دعا النائب السابق فوزي الأتروشي الى تفعيل دور المثقف العراقي خلال المرحلة المقبلة مركزاً على فترة الانتخابات التي تحتاج الى ضرورة وجود شخصيات مثقفة، يمكن لها إحداث تغييرات إيجابية ضمن المرحلة القادمة والتي تبدأ بتغيير الوجهة السياسية التي رافقت العملية السياسية منذ بدايتها بعد عام 2003 وحتى يومنا هذا .
المثقف وظل السياسياما الناقد الادبي الاستاذ محمد نوار فعرج بمداخلته بالقول: لقد أصبح المثقف في عراق ما بعد الدكتاتورية، بلا هوية او صوت يتميز به عن سواه، فهو في كثير من الاحيان ليس سوى صدى للأحداث التي جرت، وغالبا ما يظهر عند نهاية المشهد ولم يؤد اي دور ذي قيمة يحسب له.
واضاف نوار: إن المثقف اليوم بقي خلف السياسي ينتظر منه الاشارة، كي يحدد له المسير والاتجاه الذي يريد وهذه خسارة كبيرة تلحق به. ترى لماذا تراجع المثقف عن دوره الى هذا الحد ؟ وفقد كثيرا من المميزات المعنوية والاعتبارية التي كان يتحلى بها، ولا سيما دوره الريادي في القيادة الفكرية، ولان واقع الامر او المنطق يقول ان الذي يرسم خارطة الطريق ويسير عليها الجميع هو المثقف، ولكن الذي يحدث خلاف هذا الا في القليل النادر اذ ارتبط بالكرسي والمنصب كحال السياسي، ولم يبتعد بالرؤى التي يتحدث عنها ابعد من ذلك بل لم نسمع له كلاماً الا بعد ان تصل الامور او القضايا ذات الشأن العام الى اشكالية كبيرة، ويعرف الجميع تفاصيلها وبالمقابل يبقى المثقف صامتاً اتجاهها ولم يعمل شيئا سوى مقال هنا او مقال هناك، وبالطبع هذا لا يكفي وهو لا يليق بالمثقف الحقيقي الذي ارتبطت كل التغيرات الايجابية به".
وتابع : من ذلك نرى عليه ان لا يظل متفرجا على الاحداث او يسبقه الاخر في التصدي لها بل لا بد ان يكون له الدور الاكبر، وهذا ما ينسجم وشخصيته على اعتبار ان المثقف يتملك مساحة واسعة، يستطيع التحرك عليها مما يترك اثرا كبيرا على المتلقي ومن ثم تشكيل رؤيا جمعية شاملة ترتقي بالفرد او المجتمع بعد تحديد الاهداف الصحيحة والتي بنيت وفق ما رسم لها المثقف، اذن امامه اليوم مسائل كثيرة تحتاج الى وقفة تأمل ومراجعة الذات وسط هذا الكم الهائل من المشاكل التي نمر بها، وقبل ذلك عليه ان يكسر الطوق الذي ضربه عليه السياسي عندما قيد حريته تحت اعتبارات ايديولوجية لا يستطيع ان يبتعد عنها الا بالقدر الذي يسمح به السياسي متنازلا عن المبدأ او يقف متفرجا وكأن الامر لا يعنيه بشيء وهذه طامة كبرى، لان المجتمع ينظر الى المثقف انه المخلص والصوت الحقيقي باعتبارات كثيرة رسمت بذهنه من خلال الموروث الفكري لدى الناس عن شخصيته، ولأنه على الدوام هو الذي يبادر بما يمتلكه من رؤيا يسبق الاخرين بها وبالطبع لا يمكن ان يكون المثقف بطاقة بيد السياسي يظهرها وقت ما يريد كي تخدمه اغراضه النفعية لأنه عند ذلك يفقد رمزيته وقدرته على التأثير داخل البنية الجماهيرية التي تعقد الآمال الكبيرة عليها، والتي تظل ترنو اتجاهه حتى اذا ما تحرك تحركت لأنها تعلم انه يحدد الاصلح والاصوب بما يمتلك من مؤهلات فكرية تجعل زمام المبادرة بيده، ولأنها تثق فيه وتعلم انه الامين على المبادئ والقيم التي نادت بها كل الشرائع والتي جعلت من الانسان القيمة الكبرى".