بعد ان ناقشنا في المقال السابق ( دروس من بعد اعلان النصر - عراق الامس وعراق اليوم) طبيعة الواقع العراقي الجديد بعد اعلان النصر، سنحاول في هذا المقال ان نلقي الضوء على عشرة تحديات كبيرة تواجه العراق والتي ستتطلب منا الحيطة والحزم في التعاطي معها مع حاجتنا لإدراكنا الكامل لمستلزمات معالجتها بنجاح ودقة. اولاً: التحدي الاول متعلق بالانتخابات النيابية ومجالس المحافظات القادمة ومدى قدرتها على ترسيخ الديموقراطية وصعود كوادر تشريعية وتنفيذية كفؤة قادرة على مواجهة التحديات القادمة ,فضلاً عن معالجة التركة الثقيلة لعراق ما بعد ٢٠٠٣. سنرى هنا ان كانت المنظومة السياسية وأجهزة الدولة قادرة على اصلاح حالها، ام انها ستكون متعثرة وتتوقف امام اقل وابسط التحديات في المنظومات الديموقراطية والدول النامية. تماسك مجلس النواب واتخاذه منهجاً تكاملياً مع الحكومة التنفيذية والجهات القضائية هو مفتاح الحل لكثير من تحدياتنا، ومن الضروري هنا ان ينزع أعضاء مجلس النواب الجديد جلباب الثقافة السابقة والذي رسخ المعادلة الصفرية ضمن الممارسة السياسية العامة، وان يلبسوا ثوب "الوطن الواحد للكل" بعيداً عن جزئيات الهوية الاثنو-عرقية. ثانياً: تقليل الاعتماد على الاقتصاد الريعي، وبناء اقتصاد يعتمد على قطاعات مختلفة للدولة وليس فقط قطاع الطاقة واستخراجه. وهذا لا يمكن ان يتم من دون التقليل من الترهل في أجهزة الدولة المختلفة وبناء قطاعات أهلية ذو بنى تحتية مالية وتكنولوجية وتشريعية رصينة تساعدها على كسر قيد هيمنة الدولة على الاقتصاد. وهنا من الضروري ان نرى برامج وتخطيط أجهزة الدولة لتطبيق مشاريع بنى تحتية على مدى ٥، ١٠، ٢٠ سنة القادمة ، أي الحاجة الى تخطيط واقعي غير مترف بعيد الأمد ليكون المفتاح لحل مشكلات الحاضر. ثالثاً: القيام بإحصاء سكاني في هذا العام لتشخيص القدرات البشرية العراقية وطبيعة ديمغرافيتها. الإحصاءات الاولية تتحدث عن نسبة زيادة سكانية بحدود ٪٢،٨وهذا يعني ان يكون العراق في صدارة الدول في الزيادة السكانية. طبعاً إذا كانت هذه الزيادة ضمن سيطرة نوعية للحكومة وكانت ضمن مفردات التخطيط البشري والعمراني فذلك شيء مفيد، اما إذا كانت مثل هكذا زيادات عشوائية ومنفلته، فعليه سنرى ازدياد الثقل على الاقتصاد وستقلل من القدرة على زيادة نسبة الإنتاج القومي لسد الاحتياجات الأساسية لمجتمع فضلاً عن الحاجة الماسة الى التركيز على التطور العمراني وتخطيط وتنفيذ ستراتيجيات ناجحة للتنمية المستدامة. رابعاً: فرض سيطرة القانون وإعطاء الأولوية في إعادة بناء المؤسسات القضائية وتحصينها من ضغوطات وتدخلات السياسيين والتجار والطارئين وغيرهم. اذ لا يمكن للحكومة ان تفرض سلطة القانون على الكل ومحاربة الفساد بقوة دون حماية السلطة الثالثة وشعور رجال القضاء وأجهزته المختلفة في الوزارات والتشكيلات الرقابية بأمان وحرية لتطبيق القانون حسب الدستور والتشريعات العراقية النافذة. اذ لا يمكن ان تُعالج آفة الفساد في الدولة والمجتمع من دون تحصين القضاء، فهو يمتلك بيده مفتاح التعافي من هذه الامراض الخبيثة. خامساً: الحاجة الى العمل سويةً لإيجاد مناخات سياسية ومجتمعية صحية تساعد على خلق مناهج ورؤى سياسية واقتصادية وثقافية مشتركة منطلقة من التسامح والتنوع وقبول الاخر كاستراتيجية ضرورية للوصول الى وحدة رؤى واهداف لفئات المجتمع الاثنو-عرقية كافة. اذ ان الاختلافات المستمرة في تحديد أولويات المجتمع خلقت أجواء غير بناءة وساعدت على نمو التخلف والعنف والإرهاب وسوء التخطيط وضعف مناعة الجسد العراقي من امراض العهد مثل الإدمان على المخدرات وغيرها. وهنا سوف لن نستطيع ان نترجم هذه الرؤى الى واقع ملموس دون السعي بحزم الى تطبيق قاعدة الشخص المناسب في المكان المناسب. سادساً: العمل على تشخيص المستلزمات الأساسية للتخطيط الاستراتيجي لإعادة بناء العراق ،خصوصاً المعنية ببناء العلاقات الخارجية وادامتها. اذ لا يمكن ان نتعامل مع تحدياتنا بمعزل عن محيط العراق الخارجي الجغرافي او الجيوسياسي. هناك حاجة ماسة لخبرات وامكانيات دول ومنظمات دولية فضلاً عن حاجتنا الى ترك الاخر لأجنداته المضرة علينا، وهذه الحاجة لا يمكن ان تلبى من دون الوضوح فيما نحن مستعدون لتقديمه للأطراف الأجنبية الأخرى .ومن الضروري ان يكون هناك وضوح في معنى وأثر مفردة حفظ السيادة العراقية والضريبة المطلوبة او الممكن دفعها تجاه هذه الحاجة. اذ مع طغيان المنطق الميكافيللي في العلاقات الدولية . خصوصاً في منطقتنا المريضة الملتهبة لا .يمكن ان يتعامل العراق مع الاخرين بوضع نفسه كمنطقة محايدة دولياً مثل سويسرا. الواقعية في التعاملات الخارجية هي المقدمة للوصول الى قدرة جيدة في التأثير على مجريات المنطقة وتحصين العراق قدر الإمكان من آفاتها. سابعاً: القدرة على حسن إدارة التعقيد وخصوصاً وان تحدياتنا متعددة ولها عمق تاريخي. لكي نستطيع ان نحسن إدارة التعقيد نحتاج ان نفهم هذه الانظمة والكيانات المعقدة ونتقن اليات الإدارة المطلوبة في تعاطينا معها. ان منطق تبسيط المعقد يعكس بساطة التفكير عند البعض وخصوصاً في فهم أثر العولمة والثورة الصناعية الرابعة التي نعيش نحن أوائل عهدها وكيف ان الدول، وحتى الكبيرة منها، تفتقر كل يوم في القدرة على التحكم بمجريات احداثها. وعليه من الضروري ان نعيد النظر باليات الإدارة وأثر هذا التعقيد سلباً أو ايجاباً) على مسيرة مجتمعاتنا). ثامناً: إعادة بناء الركن الأساسي للمجتمع والمتمثل بالمواطن الصالح والعائلة الصالحة والذي من خلاله سنستطيع ان نجتث الفساد ونبني مجتمع يسعى الى ترسيخ القيم الأخلاقية ومحاربة الفساد كظاهرة مجتمعية مرفوضة قبل ان تكون مرتبطة بأجهزة الدولة فقط. إعادة النظر في المناهج التعليمية والتركيز على التربية في المراحل الاولى للتعليم كضرورة آنية. من جانب اخر علينا ان ندرك ان المهارات المطلوبة للتعليم قد تختلف عما تربينا عليه، وهذا يعني الحاجة الى مراجعة كاملة وشاملة لقدرات الدولة والمجتمع التربوية والتعليمية. تاسعاً: مع ثقل التركة لعراق ما بعد ٢٠٠٣ ومع حجم التحديدات في كمها وعمقها، من الضروري ان نحدد الاولويات منها، والا فسيستمر نزيف البناء والقدرة على إعادة العافية لجسد الدولة والمجتمع. هنا تأتي أسئلة مهمة معنية بمن وكيف ومتى ستتم تحديد هذه الاولويات مع إعطاءها فترة زمنية محددة لتطبيقها. وهنا تأتي أهمية دور انشاء ودعم المراكز البحثية المختصة بمجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة لكي تحدد لنا المسار السياسي المطلوب. عاشراَ واخيراً: القدرة الذاتية للمراجعة ومعرفة نقاط قوتنا وضعفنا كمجتمع وكأشخاص، اذ لا يمكن ان نتطور ونبحث عن التنمية المستدامة والتجديد من دون تحديد دقيق لمكامن الخلل والقوة في جسدنا العراقي. لكي نستطيع ان نراجع أنفسنا نحتاج قبلها الى تبني مقومات وخصال كثيرة منها الاعتراف بالخطأ، وقبول رأي الاخر، والسعي الحقيقي للتغيير، والنظر الى المستقبل بعد التجرد من اهات الماضي الأليم وغيرها. اعتقد اننا لحد هذه اللحظة نحاول ان نقود مركبة المجتمع الى الامام ونحن ننظر الى المرأة الخلفية للمركبة فقط. لنجعل من التاريخ مرجعاً للمراجعة وليس قيوداً تحد من مسيرتنا وتقدمنا الى الامام. عراق الغد مفروض منه ان يكون أفضل كثيراً من عراق اليوم او عراق الامس. توحيد البلاد وتحريرها هي مقدمة ضرورية وماسة لإعطائنا القدرة على بناء عراق الغد. نعم دقات عقارب الساعة سوف لن تتوقف ولكن ايضاً تعلمنا من سنن الكون والتاريخ بان الانسان يملك في داخله الكثير من مقومات القوة ان ركز عليها وسعى للوصول لها ضمن منهج وتخطيط سليم. لنجعل غدنا أفضل من يومنا او امسنا وخصوصا وإننا تعلمنا من رسولنا الأعظم (ص) حديثه إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل
التعليقات